اخذ ينظر إلى الأضواء المنبعثة من السفن الراسية على طول الساحل وكأنها نجوم متناثرة على مياه البحر الهادئ المتشح بالسواد….يخيل لمن لا يعرف المنطقة جيدا..أنه امتداد للاسفلت من شدة سكونه….ولكنه برغم ذلك السكون يملك من الهيبة ما يجعلك تقشعر رعبا لمجرد التفكير بالولوج بداخله…
الا انه لم يكن هذا مايشغله فى الوقت الراهن…فقد كانت برأسه أفكار أكثر رعبا من عتمة البحر المخيفة تلك….فاليوم..أدرك حقيقة لم يزل عقله غير قادر على استيعابها….وكيف لأحد أن يستوعب أن اباه هو من قتل ابن عمه…ابن عمه الذى كان بمثابة أخ أكبر له…
اخذ يتذكر ملامح ابن عمه التى لم تختفى من مخيلته بالرغم من مرور أكثر من عشرين عاما على وفاته….أو مقتله إذا صح التعبير…
كان هو فى السابعة عشر من عمره…فى الصف الثانى الثانوى..وكان ينجح بصعوبة بالغة كل عام….فقد كان لا يهوى المذاكرة وتأخر دراسيا عن اقرانه بالرغم من ذكائه ونباهة عقله..إلا أنه كان لا يحب المدرسة..ودائم المشاكسة للمعلمين ولزملائه أيضا….كان كثيرا مايهرب من الصف ليقضى ساعات الصباح فى لعب الكرة أو يتغيب عن الحضور ويتعلل بحجج كثيرة…ولم تكن والدته تغير لذلك اهتمام…فكل مايشغلها هو كيف تسيطر على البيت الكبير وتتحكم فى كل تفصيلة فيه…كانوا يعيشون جميعهم فى بيت جده…منزل كبير به سبعة غرف….ولم يكن معهم غير جده وعمه وزوجته وأولاده…كان عمه يصغر اباه بخمس سنوات الا انه أنجب قبل أخيه….ولد..وبنتان….
ولم يكن جده فقيرا حتى يعيش الجميع فى منزل واحد…ولكنها رغبته فى أن يسكن أبنائه معه فى ذلك المنزل الكبير حتى يؤنسوا وحدته…..بعد أن توفيت والدتهم…وقد كان….
اباه تزوج ابنة شريك جده فى التجارة…ولكنها لم تجنب …واقترح عليه جده.ان يتزوج بأخرى إذا أراد.. غير أنه رفض واستمر فى البحث عن علاج لزوجته….
تزوج اخوه الاصغر..وانجب بعد عام واحد ….ولد..اسماه اسماعيل.على اسم جده…فابتهج الأب وذبح الذبائح وأقام الولائم..فقد جاء من سيحمل اسم العائلة ويمتد بها إلى ماشاء الله….
حزنت زوجة الابن الاكبر كثيرا..وازدادت كرها وحقدا على زوجة الاخ…..فقد احست انها ستأخذ منها المكانة والسلطة كبيرة العائلة..وزوجة الكبير المتحكمة فى كل شئون البيت والعائلة….
مرت سبع سنوات سافر الابن الاكبر خلالها إلى أشهر الأطباء فى العالم….حتى تحقق الحلم أخيرا….وجاء هو…منتصر….كان مدللا لدرجة انه لم يكن لأحد أن يرفض له طلب..او يعيد عليه كلمة….ولكن بالرغم من كل المشاحنات التى كانت تدور فى المنزل الكبير..والصراع على السلطة والاحتفاظ بالسيطرة..الا أنه كان يحب عمه كثيرا..فقد كان هادئ الطباع مسالم بشوش الوجه…مشاعره صادقة وكان اسماعيل ابن عمه رفقيه دائما بالرغم من السنوات السبعة التى تفصلهم عن بعض…الا أنه كان يحبه ويرعاه..وكان يعلمه كل شئ…وكبر منتصر وأبناء العم..اسماعيل…وليلى…كانت ليلى تصغره بعامين…ولكنها كانت بعقل وهدوء اخيها وكأنها تجاوزت العشرين…وليست فى الخامسة عشر….
أنه يتذكر يوما كانوا يجلسون جميعهم فى باحة البيت يتسامرون وكانوا يتحدثون عن مناسبة تخرج اسماعيل من كلية الهندسة بدرجة امتياز وتعينه معيد بالكلية…كانت مشاعر الغيرة تأكل اباه الذى ألقى مباركته بصوت يشوبه الحزن أكثر من الفرح….لم يدرك وقتها ما سبب تلك النظرة..ولا تلك النبرة…
الا انه بعد أن خلد كل واحد إلى حجرته لينام ….كان هو لايزال ساهرا…وكان يجلس تحت شباك غرفة نوم ابيه وامه…وسمع ذلك الحديث..
كان اباه يتحدث إلى والدته بصوت اختلط فيه الحسرة مع الحسد..قائلا…لقد أصبح اسماعيل معيدا فى الجامعة…وبعد سنوات قليلة سيكون دكتورا بها..وقد يصبح عميد الكلية بأسرها…كم كنت أتمنى أن يكون هو ولدى….وليس ذلك الفاشل المدلل….
يتبع……
#azza sabriy #
